الجمعة، 30 يناير 2015


تنّور قريتنا

 

بقلم: حسين أحمد سليم

 

تحملني ذاكرتي الشّعبيّة على شفيف صهوات أجنحتها و على حين ومضة من سكينة هدأتي التي أمارسها و إعتدت عليها دون ملل أو كلل أو تبرّم أو إحراج... ذاكرتي هذه تُصرّ على حركة الفعل لترتحل بي في المدى الزّمنيّ البعيد, لترود بي ما تبقّى من خفايا حافظتي بعد أن إجتاحتني جحافل النّسيان و فاجأتني بإقامة سكنها الذي حسُن لها في طوايا ذاتيّتي...

ذاكرتي هذه التي شاخت مواكبة لشيخوختي أصرّت على أن تلفتني كعادتها و كما يحلو لها إلى تنّورنا في قريتنا الرّيفيّة الرّابضة إلى الغرب من مدينة الشّمس لتُشكّل النّجمة الوامضة في قلب شريط هلال بلدات و قرى غربي مدينة الشّمس...

تنّورنا الذي بناه جدّي لصناعة الخبز كصدقة جارية عند مدخل أوّل الدار بجانب الطّريق العام لقريتنا, ليستفيد منه جميع نساء سكّان قريتنا في تلك الحقبة الزّمنيّة, و لم يكن تنّورنا للخبز فقط, بل كان أيضًا مدفأة لغالبيّة سكّان القرية و خاصّة الحارة الجنوبيّة التي نقيم فيها كلها...

كان النّساء سيّما العجائز منهنّ يأوين إليه طمعًا بالدّفء, و كان تنّورنا يزدحم بزوّاره الذين يمدّون أكفّهم عند فتحة التّنّور كي تستدفيء, و بعض النّسوة من الجيران كنَّ يستغللن تشغيل تنّورنا ليجفّفن غسيلهنّ عليه, و كان تنّورنا القرويّ في تلك الحقبة الزّمنيّة المنصرمة يلعب دورًا هامّا في حركة فعل تدبيج و تركيب و تشكيل و صياغة الأخبار و توزيعها و نشرها و تعميمها على سكّان القرية و القرى المجاورة... بحيث أنّ تنّورنا له الرّحمة و لكم البقاء و طول العمر بعده, تنّورنا هذا في قريتنا الرّيفيّة و قبل هدمه لتوسعة بيتنا و غرفه كان أشبه بمقرّ وكالة الأنباء اليوم, منه و من التّنانير الأخرى كانت تتوزّع أخبار القرية... تحت ظلّ ذلك المثل المشهور في قريتنا الرّيفيّة "حَكِي تنـّور"...

تروي جدّتي على ذِمّتها أنّ في تلك الآونة من الحياة القرويّة القديمة و السّالفة, كانت الأخبار الصّادقة و الكاذبة و المدبّجة و المفتعلة و الإشاعات و فنون الغمز و اللمز تخرج من غرفة التّنّور في قريتنا, تماماً كما الكثير من صحف اليوم السّائدة أو تلك البائدة و التي هي ليست أصدق من تنّورنا أبداً... و أجزم قولاً و على رأي جدّتي أنّ غرفة تنّورنا كانت أصدق من الكثير من صحافة اليوم و وسائل الإعلام الصّفراء, من أخبار الزّواج و الطّلاق و صور الحبّ الخفي و العشق, و اللقاءات على درب العين و الآبار, و أخبـار الرّجال و اللغو في أسرارهم, و أخبـار المواسم و الحصاد و البيادر, و أخبـار المحتاجين و الفقراء و أحوال الميسورين و الأغنياء, إضافة لأخبار فلانـة و فـلان و فضح العلاقات, و الغمز مـن بيت فلان, و قهقهات عـالية على فضيحة بيت فلان, و تفسير المنامات بكل أصنافها, و كثيراً من صفقات الزّواج كانت تتمّ على التّنّور أوّلاً, و ما تبقّى ليس أكثر من أداء إجتماعي مطلوب لحفظ ماء الوجه...

و تروي جدّتي أيضًا أنّه على التّنّور كانت تُحدَّد قيمة المهر, و يتمّ الإتّفاق على القطع الذّهبيّة التي يجب شراءها للعروس إضافة للملابس العرائسيّة المميّزة و اللافتة... و كذلك يتمّ التّوافق على ما يجب فرشه في البيت الزّوجي مـن مساند و بسـط, و صندوق العروس المرصّع بالأحجار الكريمة, و نوعيّة "الأواعي" المحجر, و عـدد الفـرش الصّوفيّة التي ستكتب بإسـم العروس, "و الشكـّة" و عدد "الغوازي" التي ستعلّق بها, و تكاليف العرس و الحلوى و الأكل و "كتبة الكتاب" و "المتقدّم و المتأخّر", و قد تعلو الأصوات رغم حرارة التّنّور و العلاقات حين يصل الموضوع إلى"المصاري"...

و تروي جدّتي أيضًا أنّ أمّ البنت تقول: "الغالي حقّو غالي" و تصرّ أمّ العريس على تخفيض المهر "لأنّو الحالي مش كلّ هالقدّ و الموسم السّني متل مل بتعرفي" و تتدخّل أخريات لحسم الموضوع, هذا قبل أن يعلم الرّجال أيّ شيء عن الموضوع, و أحياناً قبل أن يعلم العريس و العروس...

و أنا أصغي لحديث جدّتي عن فلكلور قريتنا و عاداتنا و العلاقات الإجتماعيّة و السّياسيّة... يتراءى لوجداني تلك الهمروجات الدّوليّة التي تُسمّى بالمؤتمرات, متمنّيًا لو أنّ لقاءات عصبة الأمم المتّحدة و أقطاب مجلس الأمن الدّولي و هيئات المحاكم الدّوليّة و مؤتمرات القمم العربيّة تكون في مستوى تنّورنا في إتّخاذ القرارات اللازمة و حسمها و إتّخاذ الإجراءات التّنفيذيّة...

المارّ على الدّرب في قريتنا و من أمام تنّورنا بالأخصّ كان يشمّ رائحة الخبز الطّازج, فيركض ليطلب "طلميّة" من جدّتي و رائحة الخبز لها مذاق خاصّ, و من رائحة الخبز ينبعث ما يشبه الأكل تماماً, و الذي تنّوره على الدّرب عليه أن يكـون ذا صدر رحب, لأنّ بعض المارة من القرية "بأمليّتهم" يطلبون الطّلامي...

كانت جدّتي تقعد في "الجيـّازي" أمام بئر التّنّور المليء بالجمار اللاهبة و تفرش قطعة سميكة من القماش الخاصّ تُسمّى "الميزر" على يسارها, و بعد تقطيعها للعجين المختمر في الوعاء المعدني من النّحاس أو الألمنيوم, تقوم بـ "تقريص" العجين على شكل كرويّ كما الطّابة و تدعكه بالطّحين حتّى لا يلتصق ببعضه البعض, و تضع التّقريصة على "الطّبليّة" ثـمّ ترقّـقها بكفّيها و أصابعها بشكل فنّي حتّى تستدير و ترقّ, ثمّ ترفعها في الهواء و تلوح الرّغيف العجين و برشاقة إعتادت عليها تضعه على "الكارة" القماشيّة الدّائريّة ثمّ تنحني بخفّة و تلصق الرّغيف بجدار التّنّور اللاهب من الجمر في قعره كما هو معروف... و تتصبّب جدّتي عرقاً حتّى لـو كان الثّلج ينزل في الخارج, لأنّ وهج التّنّور لا يطاق أذا قاربته كثيراً, و حين يبرد التّنّور قليلاً "تحكش" جدّتي النّار بقضيب من خشب السّنديان و يُسمّى "بالمحكاش" ليحمى وهج التّنّور أكثر, و أحياناً تزيده حطباً من خشب السّنديان إذا إقتضى الأمر...

كان التّنّور يأكل لحم النّاس ميّتين و أحياء لافرق... و في غمار الليل كان التّنّور يصبح أحياناً مكاناً آمنًا للقاء العشّاق, و لا يخرج العاشقان من غرفة التّنّور إلاّ و ثيابهما مبقّعة بالرّماد و غبار التّنّور الأسود الذي لا يكنس مرّة في العمر...

و للتّنّور قصص خلاّبة في قريتنا و القرى الأخرى المجاورة, و هناك تنانير مشهورة بقصصها, و لكلّ تنّور سمته و أصحابه يعرف بها, "تنور بيت فلان"...

و التّنّور هو بيت النّار, يُبنى في غرفة صغيرة من التّراب و الحجارة, و يستخدم لصناعة الخبز القروي, و رغم وقف صلاحيّة التّنّور القروي في قريتنا و الإنتقال للأفران الحديثة فإنّ للتّنّور القروي حضوره و لو بالذّاكرة الشّعبيّة و الذي لم و لن و لا يُنسى أبدًا لأنّه من موروثاتنا في حضارة قريتنا و يُجسّد جانبًا فلكلوريّا نفخر به على مرّ الزّمن...

الخميس، 29 يناير 2015


الخضر الأخضر (ع)

 

بقلم: حسين أحمد سليم

 

يُروى الكثير الكثير على ذِمّة المؤرّخين للسّير الشّخصيّة التّاريخيّة و الإفتراضيّة... و يُنقل ما هبّ و دبّ عن الإخباريين النّاقلين للأحداث و المستجدّات على ما هي عليه أو كما يحلو لهم التّبخير و الزّيادة و النّقصان أو التّعديل المزاجيّ و التّزوير... و ترهقنا متابعة المجتهدين في قراءة الطّوالع و الرّجم في الغيب و السّياحة في متاهات التّبريج و التّنجيم... و يصيبنا الملل من مراجعة المتفقّهين في إستنباط الأحكام و ما شابه من المرويات و السّرديات...

و يُقال على ما وصلنا منها و على رأي أصحابها, بأنّ الخضر الأخضر (ع) هو حيٌ لا يموت إلاّ مع الملاكِ جبريل و بعد موت الملاك عزرائيل و نهاية العالم, و قد حباه الله تعالى بعلم لدنّيّ و وعيٍ باطنيّ و عرفان ذاتيّ, يعلم أسرار النّاس و يشفي المرضى بإذن الله, و عنده حافظة روحانيّة مكرمة له من ربّ العالمين و التي تحوي أسرار علوم الأوّلين و الآخرين...

للخضر الأخضر (ع) العديد من التّشريفات و المزارات و المقامات المنتشرة في لبنان و فلسطين و سوريا و العراق و الأردن و بعض الأقطار المحيطة بالبحر المتوسّط, بحيث يُصنّف في الطّليعة لما له من مزارات و مقامات و تشريفات و مصلّيات و مساجد و كنائس و أماكن عبادة تمّ تشييدها على إسمه, عدا عمّا يُنسج من حكايات و روايات و حتّى إجتراح العجائب و الغرائب عنده, بحيث تُحاكي الأساطير و الخرافات لإفتقادها الموضوعيّة في تدبيجها لدى الذّاكرة الشّعبيّة و الموروثات التي تتناقلها الأجيال عن السّلف...

فأين يمّمت بصركَ في بلادنا فثمّة للخضر الأخضر (ع) معلمًا بسيطًا و متواضعًا يُطالعك بغرفة صغيرة و قبّة خضراء لا ضريح فيها أو ضريحًا رمزيّا, تحيط به الأشجار المعمّرة في سهلٍ أو وادٍ أو على جبل أو تلّة أو عريض أو قرب مجرى نهر, بحيث ينتصب أمامك للخضر الأخضر (ع) نقطة إشراقيّة تتكوكب لتبحث عن الحقيقة في كنه أسرار موقعها الإفتراضيّ...

و حيث يوجد مقام للخضر الأخضر (ع) في مكان جغرافيّ ما, بوقاره و تأثيره على وجداننا الشّعبي و إلتزامنا الرّوحي, تجذبك شجرة عملاقة من السّنديان أو اللزّاب أو العرعر أو السّرو أو الأرز لاتزال صامدة تقاوم الأنواء و الأعاصير و الطّواريء و الكوارث الطّبيعيّة, و غالبًا ما تكون قد تركت فيها الأيّام و الليالي تجويفاً واسعاً يتّسع لدخول إنسان في جذعها, و غالبًا ما يُقال لك إذا ما تجرّأت و سألت عن عمرها لخادم المقام و المستفيد من حركة الزّيارات له, إنّ هذه الشّجرة من عصر النّبي آدم (ع), و هي لن تموت ما دامت الأرض و السّماء, و إذا ما راودتكَ الشّكوك بالجواب و تسأل متجاوزاً على وقار معلومات من تسأل و التي لايرقى إليها الشّكّ, كيف عرفت يا هذا أنّ هذه الشّجرة من عصر النّبي آدم (ع), و كيف عرفت أنّها لن تموت؟!... نِلتَ الزّجر مِمّن تسأله كما يزجر شيخ القبيلة أتباعه و يوصمك فورًا بالكفر و العهر و الإنحراف عن الجادة الوسطى...

و تستدرك بالقول لمن سألت: لا لا أبداً أنا مؤمن كثيراً و إنّي أقسم بالخضر الأخضر (ع) يا هذا على صدق إيماني...

و يردف من تسأله بإنتصار منطقه و معلوماته المطلقة و علمه اللدنيّ و وعيه الباطنيّ و عرفانه الذّاتيّ... قائلاً لك بلغة العارف لما لم و لن و لا تعرف؟!...

فإذا تجرّأتَ على مقام الخضر الأخضر (ع) فسوف يأتيك في الليل بشكل حنشٍ أسودٍ و أنت تغطّ في النّوم فترتبك و تصارع أضغاث أحلامك, و حين تموت فسيكون هذا الحنش ممدّداً في قبرك ينتظر قدومك إلى لحدك و لا يستطيع أحد إخراجه من قبرك أبداً...

يُروى أنّ للخضر الأخضر (ع) مقام فوق تلّة خضراء في مكانٍ جغرافيّ ما في بلادي, و إزاء ضريحه الإفتراضيّ الرّمزيّ توجد شجرة دهريّة من العرعر أو اللذّاب, يُقال أنّ عمرها الممتدّ لا تحصيه حقب السّنوات, جوّفتها الرّياح العاتية و جنون الأعاصير, حتّى تكوّن في جذعها الضّخم فتحة واسعة على شكلِ كُوّةٍ تتّسع لأكثر من رجل, و في جانب الشّجرة هذه يوجد بئرا عميقة و في قعر البئر يوجد حنشًا أسود يتربّص للأشرار الذين يحاولون سرقة محتويات مقام الخضر الأخضر(ع)...

و جرت العادة في القرى المجاورة لمقام الخضر الأخضر(ع) أنّ القرويات اللواتي ينذرن نذرًا للخضر الأخضر (ع) أن يُشعلن السّراج التّراثيّ القديم و الموضوع في مشكاة في الجدار الجنوبيّ لمقام الخضر (ع), و هذا السّراج يعتبر مقدّسًا لأنّه من بعض أسرار الخضر الأخضر(ع) أن يبقى مشتعلاً في جميع الليالي من غروب الشّمس و حتّى شروقها, و الذي تُحدّثه نفسه على سرقة زيت الخضر الأخضر (ع) يقع في حالات الإرتباكات المزعجة و لا يستطيع النّوم, و قد يُصاب بأضغاث الأحلام و عذاباتها و يرى الحنش الأسود راقدًا في فراشه بإستمرار, و عيناه تقدحانِ شررًا, يلتفّ حول جسده و يمارس لدغه و قد يُصاب بعلّة لا يبرأ منها أبدًا...

أمّا صاحبات النّذر للخضر الأخضر (ع) من العجائز و النّساء و الصّبايا فتستجاب نذورهنّ إذا كُنَّ مؤمنات و ذوات نوايا طيّبة, و يتمتّعن بالمصداقيّة من دون تكايد و لا تداه, و بعضهنّ ينذرن لإزالة العقم عنهنّ و الإبتهاج بمجيء مولود صالح لهنّ, و بعضهن تقدَّمَ بهنّ العمر و أصبحن من العوانس و يردن عرساناً كيفما كان الحال, و بعضهنّ يُنذرن لعودة غائب طال غيابه و البعض الآخر ينذرن لشفاء مريض نال منه المرض و أسقمته العلل...

و تروي جدّتي أنّ الخضر الأخضر (ع) تأتيه الغزلان ليلاً لتتشرّف بأن تكون طعاماً له, و الغزلان تشتكي عنده كسائر الوحوش في سنوات المحل و العِسرة... و للخضر الأخضر (ع) جوادًا  مُسرَجًا دائماً بسرج مرصّع بالعقود و الأساور من اليواقيت و الزّمرّد و العقيق, و هو يحرس القرية من الزّلازل و الكوارث, و يصدّ عنها الأعاصير العاتية... و حصان الخضر الأخضر (ع) شرب من ماء عين الحياة, و لذلك شارك الخضر الأخضر (ع) في الشّرب من ماء عين الحياة, و سيبقى يصهل في تلّة الخضر الأخضر (ع) ما دامت الأرض أرضاً, و السّماء سماء, و صهيله يمتدّ في كلّ الجهات ليعمّ المدى مع الخوافق, و يجيء أطفال و صبايا القرى و يجمعون دندنات صهيله في كلمات حانيات و أغنيات و أناشيد و ترانيم و تجاويد و موشّحات و أغاني طربيّة...

و يروي جدّي العجوز أنّ الخضر الأخضر (ع) دبّج الرّواة أسطورة خياليّة له و هو ذاته القدّيس جرجس الذي قتل التّـنـِّين عند شاطيء مدينة المستقبل بيروت, رغم فارق الزّمن بين الخضر (ع) الذي عاصر النّبي إبراهيم (ع) و النّبي موسى (ع) و وجود القدّيس جرجس في القرن الميلادي الثّالث, و هو ما يجتهد به جدّي فلسفة التّقمّص على أبواب و مراحل عديدة, بحيث تتشعّب السّيّالات الرّوحيّة بين فسخ و مسخ و نسخ و رسخ... و يُؤكّد جدّي بما لا جدل فيه أنّ الخضر الأخضر (ع) هو النّبي إلياس الحيّ (ع) الذي أرسله الله تعالى لأهل بعلبك ليهديهم للحقيقة و يرشدهم لعبادة الواحد الأحد, و يروي جدّي أيضًا أنّ الخضر الأخضر (ع) هو ذاته النّبي أيلا (ع) الذي حملت أسمه بلدة النّبي أيلا البقاعيّة قرب مدينة زحلة مركز محافظة البقاع في لبنان...

و يعزو جدّي أنّ الخضر الأخضر (ع) هو من جرّ الماء الصّالحة للشّرب للنّجمة القدريّة في قريتنا التي تتماهى في شريط هلال بلدات و قرى غربي مدينة الشّمس بعلبك, لتُغذّي عين القرية و أبارها و بركها, كي يشرب منها جميع سكّان القرى المجاورة لقريتنا الرّيفيّة... و يُصرّ جدّي وفق إجتهاداته و إستقراءاته و تحاليله وما يستنبطه في جدليّاته أنّ الخضر الأخضر (ع) سكن قريتنا لفترة زمنيّة سالفة و أقام فيها بعض صلواته, فأجمع أهل القرية على بناء مقام للخضر الأخضر (ع) حيث تراءى لجدّي أنّ الخضر الأخضر (ع) سكن و إرتاح في قيلولة و صلّى...

و يقول جدّي أنّ من يومها أعطى الخضر الأخضر (ع) الإذن للجنّ المؤمنين أن يقيموا أعراسهم و حفلاتهم و أفراحهم في قريتنا الرّيفيّة البقاعيّة كُلّ مساء من كل خميس, و كان القرويّون في ذلك الزّمن يسمعون عزف الجنّ و غناءهم حتّى الفجر, و لايزال بعض المسنّين في القرية يؤكّدون ذلك, و يقسمون أغلظ الأيمان على ما يقولون...

هذا و تقول جدّتي إذا زار مقام الخضر الأخضر (ع) رجلٌ أو إمرأة في جنابة أو نجاسة أو بلا طهارة, فسيصاب بمرض مزمن, و تحلّ عليه لعنة أبديّة إلاّ إذا أشعل سراج الخضر الأخضر (ع) لسبع مرّات متتالية كلّ ليلة خميس على مدار أسبوع كامل, لأنّ الخضر الأخضر (ع) في تلك الليالي يستقبل الأصفياء و الأولياء و الأتقياء, و بعض المؤمنين من المشايخ و رجال الدّين و الصّوفيّين...

و الخضر الأخضر (ع) إذا أراد أن يعطي كرامة أو يغدق عليه بعضًا أو شيئاً من علمه لإنسان ما, تفل في حلقه فأصبح يمتلك ما تيسّر من أسرار, ثمّ يترقّى هذا المُكرّم إلى أن يصبح قطباً و مرجعًا ينجذب النّاس إلى مجالسه وحلقات ذكره...

الخضر الأخضر (ع) جسد شفّاف يعرف أمور النّاس قبل حدوثها بإذن الله, و تلك كرامة كبرى خصّه الله بها كما في قصّة الخضر (ع) و النّبي موسى (ع) في سورة الكهف بالقرآن الكريم, و طمعاً في شفافيّته حفظت أوّل ما حفظت من القرآن الكريم سورة الكهف و أردّدها صباح مساء, و كم أتمنّى أن أكون من أولئك الذين يكرّمهم الله تعالى و يُنعم عليهم و يدخلهم الجنّة الفردوسيّة المُوشّاة باللينوفار المقدّس بلا حساب...

و أنا أتلو ما تيسّر لي من آيات سورة الكهف في القرآن الكريم كُلّ صباح و مساء, تتراءى لوجداني قصص الأنبياء و المرسلين الأوائل, سيّما قصّة النّبي موسى (ع) و العبد الصّالح الخضر الأخضر (ع) و المعجزات التي حدثت للنّبي موسى (ع) و منها إنتعاش الحوت بالحياة, إضافة لمعجزات الخضر الأخضر (ع) فب السّفينة و مع الطّفل و الجدار... و تتراءى لي كذلك تشكيلات الدّواب للعبرة و التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم, مثل كلب أهل الكهف, و هدهد النّبي سليمان (ع) و نملته, و عجل النّبي إبراهيم (ع), و ناقة النّبي صالح (ع), و بقرة النّبي موسى (ع), و حوت النّبي يونس (ع), و كبش الفدية للنّبي إسماعيل (ع) , و غراب إبنيْ آدم (ع), و دابّة الأرض التي أكلت منسأة النّبي سليمان الحكيم (ع)...

و القرويّون في بلادي لا يزالون يقسمون الأيمان بالخضر الأخضر (ع) لحضوره الدّائم في ضمائرهم و وجدانهم و تفكيرهم و خيالهم و أحلامهم... أوليس هو الذي نبـّأ النّبي موسى (ع) بتأويل ما لم يستطع عليه صبراً؟!... و هو الذي تجلّى في عالم الأحلام لأحدهم طالبا منه بناء مقام على إسمه في ربوع قريته...

و الخضر الأخضر (ع) يحمل الإنتماء الرّوحي و الدّيني حيث له مقام أو مزار أو تشريفة أومسجد أو معبد أو كنيسة, ففي قريتنا الخضر (ع) مسلم شيعي و في قرية أخرى هو مسلم سنّي و في ثالثة هو مسلم درزي موحّد و في رابعة هو مسلم علوي و في بلدات المسيحيين هو مسيحي و في بعض الدّول هو شفيعهم و هو رمزهم...

الأربعاء، 28 يناير 2015


قبسات من حياة الخضر (ع)

 

حسين أحمد سليم

 

يُروى: أنّ الخضر (ع) كان من أبناء الملوك فآمن بالله و تخلّى في بيت في دار أبيه يعبد الله، و لم يكن لإبيه ولد غيره، فأشاروا على أبيه أن يزوّجه فلعلّ الله أن يرزقه ولدًا فيكون الملك فيه و في عقبه، فخطب له إمرأة بكرًا و أدخلها عليه فلم يلتفت الخضر (ع) إليها، فلمّا كان اليوم الثّاني.

قال لها: تكتمين عليّ أمري؟
فقالت: نعم.

قال لها: إن سألك أبي هل كان منّي إليكِ ما يكون من الرّجال إلى النّساء فقولي: نعم.

فقالت: أفعل.

فسألها الملك عن ذلك فقالت: نعم.

و أشار عليه النّاس أن يأمر النّساء أن يفتّشنها، فأمر فكانت على حالتها.

فقالوا: أيّها الملك زوّجت الغرّ من الغرّة، زوّجه إمرأة ثيبا، فزوّجه، فلما أدخلت عليه سألها الخضر (ع) أن تكتم عليه أمره.

فقالت: نعم.

فلمّا أن سألها الملك قالت: أيّها الملك إنّ إبنك إمرأة فهل تلد المرأة من المرأة؟!

فغضب عليه و أمر بردم الباب عليه فردم، فلمّا كان اليوم الثّالث حرّكته رِقّة الآباء فأمر بفتح الباب ففتح فلم يجدوه فيه، و أعطاه الله من القوّة أن يتصوّر كيف شاء.

ثم كان الخضر (ع) على مقدّمة ذي القرنين، و شرب من الماء الذي من شرب منه بقي إلى الصّيحة.

فالعديد من الرّوايات تروي أنّ الخضر (ع) شرب من ماء الحياة و أنّه باقي على قيد الحياة حتّى ينفخ في الّصور أو إلى أن يشاء الله.

و يشهد لهذا المعنى ما ورد عن بعض الأئمّة (ع) أنّ الخضر (ع) شرب من ماء الحياة، فهو حيّ لا يموت حتّى ينفخ في الصّور.

 

و يُروىَ أنّه خرج من مدينة أبيه رجلان في تجارة في البحر حتّى وقعا إلى جزيرة من جزائر البحر، فوجدا فيها الخضر (ع) قائما يصلّي، فلمّا إنفتل دعاهما فسألهما عن خبرهما فأخبراه.

فقال الخضر (ع) لهما: هل تكتمان عليّ أمري إن أنا رددتكما في يومكما هذا إلى منازلكما؟

فقالا: نعم.

فنوى أحدهما أن يكتم أمره، و نوى الآخر إن ردّه إلى منزله أخبر أباه بخبره، فدعا الخضر (ع) سحابة.

و قال لها: إحملي هذين إلى منازلهما، فحملتهما السّحابة حتّى وضعتهما في بلدهما من يومهما، فكتم أحدهما أمره. و ذهب الآخر إلى الملك فأخبره بخبره.

فقال له الملك: من يشهد لك بذلك؟
قال: فلان التّاجر.

فدلّ على صاحبه، فبعث الملك إليه فلمّا أحضروه أنكره و أنكر معرفة صاحبه.

فقال له الأوّل: أيّها الملك إبعث معي خيلا إلى هذه الجزيرة و أحبس هذا حتّى آتيك بإبنك، فبعث معه خيلا فلم يجدوه، فأطلق عن الرّجل الذي كتم عليه.

ثمّ إنّ القوم عملوا بالمعاصي فأهلكهم الله و جعل مدينتهم عاليها سافلها، و إبتدرت الجارية التي كتمت عليه أمره و الرّجل الذي كتم عليه كل واحد منهما ناحية من المدينة، فلمّا أصبحا إلتقيا فأخبر كل واحد منهما صاحبه بخبره.

فقالا: ما نجونا إلاّ بذلك، فآمنا بربّ الخضر (ع)، و حسن إيمانهما و تزوّج بها الرّجل، و وقعا إلى مملكة ملك آخر و توصّلت المرأة إلى بيت الملك، و كانت تزيّن بنت الملك فبينا هي تمشّطها يومًا إذ سقط من يدها المشط.

فقالت: لا حول و لا قوّة إلا بالله.

فقالت لها بنت الملك: ما هذه الكلمة؟

فقالت لها: إنّ لي إلها تجري الأمور كلّها بحوله و قوّته.

فقالت لها: ألك إله غير أبي؟

فقالت: نعم و هو إلهك و إله أبيك.

فدخلت بنت الملك إلى أبيها فأخبرت أباها بما سمعت من هذه المرأة، فدعاها الملك فسألها عن خبرها فأخبرته.

فقال لها: من على دينك؟

قالت: زوجي و ولدي.

فدعاهم الملك و أمرهم بالرّجوع عن التّوحيد فأبوا عليه، فدعا بمرجل من ماء فسخّنه و ألقاهم فيه و أدخلهم بيتا و هدم عليهم البيت.

الثلاثاء، 27 يناير 2015


العبد الرّباني في سورة الكهف

 

بقلم: حسين أحمد سليم

 

إنّ قصّة النّبي موسى (ع) في سورة الكهف تتعلّق بعلم ليس هو علمنا القائم على الأسباب. و ليس هو علم الأنبياء القائم على الوحي. إنّما نحن أمام علم من طبيعة غامضة أشدّ الغموض. علم القدر الأعلى، و ذلك علم أسدلت عليه الأستار الكثيفة. حيث مكان اللقاء مجهول، و زمان اللقاء غير معروف هو الآخر. مع عبد غير معروف وصفه الله تعالى أنّهُ (عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَ عَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا).

أمّا المثير في هذه القصّة أنّه برغم أنّ الله خصّ نبيّه الكريم موسى (ع) بأمور كثيرة. فهو كليم الله عزّ و جلّ، و أحد أولي العزم من الرّسل، و صاحب معجزة العصا و اليد، و النّبي الذي أنزلت عليه التّوراة دون واسطة، و إنّما كلّمه الله تكليما، نرى هذا النّبي العظيم يتحوّل إلى طالب علم متواضع يحتمل أستاذه ليتعلّم. فمن يكون هذا العبد الذي يتجاوز السّياق القرآني إسمه؟!. لذلك فهو يظلّ مجهولاً و إن جاء في بعض الحديث أنّه هو الخضر (ع)، وأنّ الفتى هو يوشع بن نون...

كشف العبد الرّبّاني للنّبي موسى (ع) شيئين في الوقت نفسه... كشف له أّنّ علمه محدود... كما كشف له أنّ كثيرًا من المصائب التي تقع على الأرض تخفي في ردائها الأسود الكئيب رحمة عظمى. و أنّ ظاهر الأشياء يختلف عن باطنها. ثمّ ينفض الرّجل يده من الأمر. فهي رحمة الله التي إقتضت هذا التّصرّف. و هو أمر الله لا أمره. فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة و فيما قبلها، و وجّهه إلى التّصرّف فيها وفق ما أطلعه عليه من غيبه. ثمّ إختفى في المجهول كما خرج من المجهول...

و يرى كثير من الصّوفيّة أنّ هذا العبد الرّبّاني وليّ من أولياء الله تعالى، أطلعه الله على جزء من علمه اللدني بغير أسباب إنتقال العلم المعروفة. و يرى بعض العلماء أنّ هذا العبد الصّالح كان نبيّا...

و لعلّ هذا الغموض حول شخصه الكريم جاء متعمّدًا، ليخدم الهدف الأصلي للقصّة...

الاثنين، 26 يناير 2015


قصّة الخضر(ع)

 

بقلم: حسين أحمد سليم

 

العبد الصّالح و المُسمّى الخضر (ع) شخصيّة حقيقيّة و مخلوقة وجوديّة من قبل الله تعالى لتتجلّى في بديع صنعها و سرّها و تدلّ على عظمة الخالق...

لازمت شخصيّة الخضر (ع) الأنبياء بأمر من الله تعالى, لتقوم بمهمّات تكليفيّة خاصّة في التّوجيه و التّعليم و الهدي و الرّشاد...

جاء إسم الخضر (ع) في القرآن الكريم بالعبد الصّالح، و عند اليهود إسمه إلياهو النّبي، و عند المسيحيّين مار جريس، و له قصّة مشهورة و صورة متداولة و هو يقتل للتّنّين...

و للخضر ما يربو على السّبعين مقامًا و مزارًا في منطقة الشّرق الأوسط لكثرة تجواله و تنقّله, كما ورد في المرويات و المنقولات و التّفاسير التي وصلتنا عبر حقب التّاريخ...

و قد إختلف العلماء في إسم الخضر (ع) و نسبه، و نبوّته، و حياته و ما زال ذلك كلّه مبهما حتّى الآن و لم يستطع أحد أن يؤكّد كلّ ما تمّ ذكره عن هذه الشّخصيّة التّاريخيّة القرآنيّة, إلاّ أنّها شخصيّة حقيقيّة موجودة تكلّم عنها الأنبياء و الرّسل و أكّدوا وجودها...

قيل إنّه الخضر بن آدم و من صلبه، و أنّ إسمه خضرون بن قابيل بن آدم... و هو حاضر في كلّ أوان و زمان إلى أن يظهر المسيح الدّجّال فيكذّبه و يفضحه ثم يموت...

و قيل أنّ آدم أنبأ بنيه قبل موته أنّ الطّوفان سيقع بالنّاس، و أوصاهم إذا كان ذلك أن يحملوا جسده معهم في السّفينة، و أن يدفنوه في مكان عيّنه لهم، و أخبرهم أنّ من يدفنه من أولاده سيكون له طول العمر و يخلد في الأرض إلى نهاية الزّمان...

فلمّا كان الطّوفان حملوه معهم، فلمّا هبطوا إلى الأرض، أمر نوح بنيه أن يذهبوا ببدنه فيدفنوه حيث أوصى. فهابوا المسير إلى ذلك المكان لوحشة الأرض و وعورتها، إلاّ الخضر (ع) فتولّى دفنه، و أنجز الله ما وعده، لذلك فهو يحيى إلى ما شاء الله له أن يحيى...

و أمّا ألقابه فكثيرة و منها: (الخضر) و (العالم) و (العبد الصّالح) و إشتهر بالخضر (ع). و يذكر بعض المؤرّخين قصّة نشأة الخضر (ع) إعتمادًا على روايات تاريخيّة مذكورة في كتبهم، فقالوا: أنّ الخضر (ع) كان إبن ملك عظيم من ملوك ذلك الزّمان إسمه (ملكان) و كان لهذا الملك سيرة حسنة في أهل مملكته، و لم يكن لديه ولد غير الخضر (ع)، فسلّمه إلى المؤدّب ليعلّمه و يؤدّبه، فكان الخضر (ع) يأتي إليه كلّ يوم، فيجد في الطّريق رجلاً عابدًا ناسكًا، فيجلس عنده و يتعلّم منه حتّى نشأ منقطعًا لعبادة الله عزّ و جلّ في غرفة خاصّة به في قصر أبيه ملكان.

و قد اختلف المؤرّخون في مسألة هل هو حيّ أو ميت, فمنهم من قال إنّه حيّ موجود بين أظهرنا الآن و هذا الرّأي متّفق عليه عند الصّوفيّة و جمهور العلماء... و الثّابت فى القراَن أنّه عبد من عباد الله آتاه الله رحمة و علما من عنده، لكن هذا العبد يحتمل أن يكون نبيّا و يحتمل أن يكون وليّا أو رجلاً صالحًا. و الثّابت من الحديث أنّ لقبه الخضر (ع)، و لم يرد نصّ صريح فى كونه مات أو ما زال حيّا، أو أنّ له لقاءات مع بعض الأنبياء أو الأولياء، أو أنّه يلقي السّلام على بعض النّاس فيردون عليه التّحيّة...و كلّ ذلك ليس له دليل يُعتدّ به...

الخميس، 22 يناير 2015


متاهات

 

بقلم: حسين أحمد سليم

 

أبحثُ عنِ المجهولِ في كينونتي ليلَ نهار,

أبحثُ في خفايا نفسي ما إختبأ منَ الأسرارْ,

أبحثُ عنْ سِرَّ وجودي المخبوءِ خلفَ السِّتارْ,

أتوجّسُ خيفة ذاتي مِمّا تُخبّيءُ ليَ الأقدارْ,

تُخاطرني في البعد هالاتُ سيّالاتٍ منَ الأفكارْ,

تتراءى لي تجلّياتُ الفراديسِ و ما فيها من اللينوفارْ,

جنائنُ و عيونٌ و عصافيرُ و حمائمُ و مختلفُ الأطيارْ,

و سندسٌ و أغصانٌ غضّةٌ و ارفةٌ و تشكيلُ أشجارْ,

و ورودٌ يانعةٌ من كلّ الأنواعِ و مساكبُ من الأزهارْ,

كيفما يمّمتُ وجهي ثمّةَ تتدلّى من الأغصانِ الأثمارْ,

يغرورِقُ تفكّري خشوعًا لله في علاه العزيزُ الجبّارْ,

و تجتاحني من حيثُ لا أدري أمواجَ من الأفكارْ,

كأنّها سيّالاتٌ من خيوطٍ ذهبيّةٍ من شمسِ النّهارْ,

أستجدي القوّةَ من الضّعفِ و أمتشقُ السّيفَ البتّارْ,

لستُ ألهو بين الجدِّ و اللعبِ أحزمُ أمري و أختارْ,

فالنّفسُ بالسّوآتِ أمّارةً تحتجبُ خلفَ الأستارْ,

تنفخُ في جمرها خِلسةً حتّى تتّقدُ الجمارْ,

و تنتفضُ من هدأتها تتلظّى لهبًا و تتأجّجُ النّارْ,

تشتعِلُ كُلّ الأشياءِ من حولي و مياه البحارْ,

و تُفتقدُ المياهُ على حينِ غفلةٍ في مجاري الأنهارْ,

و تعصِفُ الرّياحُ العاتيّة من كلّ خافقٍ و يتعاظمُ الإعصارْ,

و تُحتجبُ الأشياءُ من وطيسِ السّاحِ ويكسوها الغبارْ,

و تُزهلُ كُلّ الأشياءِ و تعُمَّ الفوضى كُلّ الدّيارْ,

هنا غبارٌ و هناكَ دخانٌ و لهاهنالكَ تحترِقُ القفارْ,

إلى المجهولِ نحزمُ الأمرَ و نتأبّطُ حركة الفعلِ قرارْ,

كُلُّ الأصواتِ سكنتْ في الحناجرِ و أسدِلَ عليها السّتارْ,

و لمْ أعُدْ أسمعُ غير صهيلِ الخيولِ خلف عواصِفِ الغبارْ,

و جعجعةَ شياطينٍ و قرقعةَ سيوفٍ و نهيقَ حمارْ,

لستُ أنسى نِدرَ الخضرِ و إن إمتدّ بي للخضرِ المسارْ,

لا همّ عندي إنِ إعتليتُ صهوةَ حِصانٍ أو ركبتُ حِمارْ,

فالغاياتُ تُبرِّرُ الوسائلَ في هذا الزّمنِ الكافرِ القهّارْ...

الأربعاء، 21 يناير 2015


نِذرُ للخضرْ

 

بقلم: حسين أحمد سليم

 

ذات يومٍ مجهولِ التّاريخ مضى آفلا مِن مددٍ في زمنِ العُمرْ,

حملتني أمّي طوعًا و كُرهًا في رحمِها تتجلّدُ صبرًا على الصّبرْ,

إيمانًا و إطمئنانًا و عِشقًا تسبحُ في رؤى الآمالِ على ذِمّةِ القدرْ,

تمضي الليل ساهرةً تناجي قناديلَ النّجومَ في الفضاءِ و لا تتذمّرْ,

تعُدُّ الكوكباتَ و بروج الشّمسِ و مساراتها و ترنو هانئةً لنورِ البدرْ,

تتمنّى فيما يُراوِدها أن تكونَ نجمةَ الصُبحِ في هِلالِ القمرْ,

تحسبُ الأيّامَ و الليالي بالثّواني, تستقبلُ شهرًا و تُودّعُ شهرْ,

تُخفي في مكنون كينونتها سِرَّ الكتمان كيّ لا يُشاعُ السّرّْ,

قد نذرت ما في رحمها لله تبريكًا على إسمِ العبدِ الصّالحِ الخضرْ,

و ذات يومٍ آخرَ في الحِسابِ ولدتني أمّي فقيرًا على دربِ الفقرْ,

و نذرني جدّيَ حُبّا و عِشقًا كما أمّي لِلخضرِ و قد أضناه الدّهرْ,

و هكذا جدّتي أخذت على عاتقها حملي على أكتافها لإيفاءِ النّذرْ,

و أبي راودته الأحلام يتهجّد في الليالي يتضرّعُ مُحمدلاً بالشّكرْ,

ماتَ جدّي و جدّتي و أبي و أمّي لهم الرّحمةُ و ما زال النّذرُ للخضرْ,

كنتُ طِفلاً صغيرًا و كبرتُ و لمْ أكُنْ أعرِف من يا تُرى هوَ الخضرْ؟!...

و لم أكُن لأفهمَ في ريعانِ طفولتي أسطورةَ ما معنى النّذرْ؟!

و كمْ أمضيتُ الليالي أتفكّرُ عقلنةً في النّذرِ حتّى أسكرني الفِكِرْ,

كأنّني من حيث لمْ و لنْ و لا أدري قلبنتُ ذاتي و سُجنتُ في الأسرْ,

يحملني التّخاطرُ كُلَّ ليلةٍ على صهواتِ أثيره أتحلّى بنعمة الصّبرْ,

و كُلّ ليلةٍ و من حيثُ لا أدري أُوقِدُ من شموعي في مقامِ الخضرْ,

أتحدّى وساوسَ كُلَّ الشّياطينَ بنفسٍ مُطمئنّةٍ لله في الذّكرْ,

و يزدادُ التّحدّي و يتعاظمُ إيمانًا و إطمئنانًا لله في زمنِ الكفرْ,

هي الدّنيا يا خضرُ كأنّها شمطاءُ عشّشت فيها سياسة العهرْ,

و ساسةٌ حُثالاتُ هذا الزّمنِ دُهاةٌ زناةٌ لا أمانَ لهم من الغدرْ,

و حُكّامٌ أفضلهم أولئكَ الذين كُشِفتْ عوراتهمْ كُلّما رُفِعَ السِّترْ,

كاذِبونَ إن وعدوا غادرون إن صوحبوا غيلانٌ بألبسةِ البشرْ,

طفح الكيلُ عربدةً و نجاسةً و فسادًا و إجرامًا و ساء الخبرْ,

أرسل عليهمْ شواظا من أتونٍ فليس لهم مكانا إلاّ في سقرْ,

لا تُبقي منهم نسلاً أبناء العهر و الكفرِ و القهر و لا تذرْ,

فما أغبى الذي يحملُ الأمانةَ بلا وعيٍ و كمْ يُثقله الوِزرْ؟!

تعالي حبيبتي نتطهّرُ نفسًا و فِكرًا و نغتسلُ بماء النّهرْ,

نرفعُ أكفّنا للسّماءِ بالدّعاءِ و نتضرّعُ و نتهجّدُ لله بالشّكرْ,

نحملُ كُلّ غسقٍ شموعنا نُضيءُ مزارات و مقامات الخضرْ,

لا همّ لنا سواء آمنَ النّاس أم غرقوا في دركاتِ الكُفرْ,

دركاتُ الجحيمِ أجارنا الله من نيرانها و لظاها و الجمرْ,

فدرجاتُ النّعيمِ لا يرودها إلاّ من آمن بالله و أحبّ الخضرْ,

و على السّواءِ إن كانَ الخضرُ و ليّا أو نبيّا فليس من وزرْ,

أو كان قِدّيسًا أو ملاكًا أو أيلا النّبي أو إلياس و ما جاء في الذّكرْ,

أو كان عليًا في النّورانيّةِ أو محمّدًا أو جرجس النّصارى و النّصرْ,

و إن كانَ حيّا على وجه الماءِ أو ميّتًا فليس الإيمانُ يتغيّرْ,

فتعالي حبيبتي كُلّ فجرٍ نُرتّلُ سورة الكهفِ نرود بآياتها قصّة الخضرْ...

الثلاثاء، 20 يناير 2015


أماني عاشق

 

بقلم: حسين أحمد سليم

 

الأماني الورديّة معسولة التّشكيلِ في الوجدانِ و ذاكرة الخيالْ,

تتراءى وامضةَ الطّيفِ في البعد المرتجى كأنّه عرائس الأحلامْ,

جميعها تتلاشى سريعًا كما زبدَ الأمواج عند الشّاطيء الولهانْ,

حيثُ مياه الأمواجِ الصّاخبةِ العاتيةِ تتكسّر عند الرّمالِ و الصّخورْ,

و تمتصّها حبيبات الرّمالِ و تتطاير في الهواءِ و يتلاشى الرّذاذْ,

و جميعها تذوبُ كما وعود السّاسة و السّياسةِ و أقزام الحكّامْ,

لتبقى الأمنية الكبرى عِنوان الحقيقة العظمى تسكن الوجدانَ و الذّاتْ,

تتموسقُ للوجودُ ترانيمَ و تهجّداتَ و تباشيرَ من أجلِ الوجودِ و الحياةْ,

و تتبارك قداسةً و طهارةً من خلاصةِ قداسةِ المودّة و طهارةِ بالرّحمةْ,

و تُقامُ أيّما مكانٍ و زمانٍ دولةُ الحياةِ قِوامها الوعيُ و الحبّ و العِشقْ,

أساس قِوامُ البقاءِ و العيشِ في مكنون الأسرارِ و كنه السِّرِّ الإستمرارْ,

لِيُعرف الله و يُوحّدُ و يُعبدُ و تتجلّى العظمةُ في عظمةِ الخلقِ و الإبداعْ,

مهما عربد العهر و الكفر و إستكبر الظّلم قهرًا في المكان و الزّمانْ,

و تعاظم الحرمانُ و الإجحافُ عِنوةً على ذِمّةِ عصرنة الحضارة الجوفاءْ,

أناديكِ كارِزًا بقصائدي و نثائري و الصّدى يشُقُّ الفجاجاتَ عندَ القِممْ,

و موجاتٌ هائماتٌ في لامتناهياتِ المدى تُدندنُ الآيات تجويدًا و ترتيلاً,

فتعالي نجمةَ الصّبحِ الوامضةِ يا قدريّة الحُبِّ و العِشقِ في رِضى الله,

تعالي يا كوكب الصّبحِ المنيرِ يا من أسكن الله صدركِ المودّة و الرّحمةْ,

تعالي يا حاملةَ مِشعلَ الثّورةِ و الثّوّارِ نُوقِدُ البحار و الأنهار و البرك و الماءْ,

تعالي نُلهبَ المكانَ و الزّمان و نُعلنُ حركةّ الرّفضِ و فِعلَ الثّورة و العصيانْ,

فهمسُ كربلاء ينزف دمًا في الطّفِّ و النّشيجُ يعمّ الأرض و يجوب الأجواءْ,

فتعالي وفاءً و إخلاصًا و عِنوةَ فِعلٍ الثّورةِ نُشعِلُ ما حولنا و كُلّ الأشياءْ,

العبدُ الصّالحُ الخِضرُ ينتظرنا في لهفٍ عند كُلّ مقامٍ له و معلمٍ و مزارْ,

تعالي يرحمكِ الله نملأ القناديل الفارغةَ زيتًا و نُضيءُ كُلَّ فتائلَ النّورْ,

و لِنمْسحَ تعميدَ بركةٍ و قداسةٍ بالبسملةِ جبين كُلّ المجاهدينَ الشّرفاءْ,

ننفخُ الرّوحَ في رميمِ المُتعبين شرقًا و غربًا شِمالاً و جنوبًا و هنا و هناكْ,

نُكفكِفُ الدّموعَ التي تترقرقُ لاهبةً على الوجناتِ و لا نُطلِقَ لها بعد اليومِ العِنانْ,

تعالي يا رمز الفِداءِ الحُرِّ نمتشِقُ السّلاحْ هو أجدى و أفعلُ من دموعِ المُتعبينْ,

و السّلاحُ وحده وحده كما قال الإمام هو زينةُ الرّجالِ و حُسنِ النّساءْ,

لا تخافي العسس تعالي حبيبتي القدريّة نُعلِنُ الثّورة في كُلِّ ساحْ,

تعالي نطوفُ و نحمِلُ بيدٍ للخضر الشّموع المُتّقِدةْ و بالأخرى السّلاحْ,

و نرقصُ فرحًا و عنفوانًا و نُنشِدُ الحُبّ و العِشقَ على صوتِ أزيز الرّصاصْ,

قد تعاظم الإجرام في بلادي تعالي نصنعُ الفُلكَ لنا مرّة أخرى من أرزِ لبنانْ,

نوح النّبيّ ينتظرنا على تشاغفٍ في بقاع كركه و عين الجّرّ ليبدأ الطّوفانْ,

و وصيّةُ آدم الأمانة بين يديّ شيخ الأنبياءِ ما زالت تنتظِر الدّفن فِعلَ الجهادْ,

تعالي حبيبتي القدريّةُ نتحدّى كُلّ الشّياطينِ و نقطف من بساتين الجنّةِ التّفّاحْ,

نعرج للعلا في الفضاءاتِ اللامتناهيةِ و نرود الفراديسَ الآلهيّةَ الموشّاةِ باللينوفارْ,

و نهدل معًا في الحُبّ و العِشقِ و الحمائمُ و اليمائمُ و ننظمُ للحبِّ البشاراتْ,

نعضدُ أزرنا ببعضنا نتكاملُ و نتناغم و ننسجمُ مودّة و رحمةً في العِشقِ و الحُبّْ,

تعالي نتدجّجُ بالإيمانِ و الإخلاصِ لله و نخوضَ الحربَ ثورةً على الظّلمِ و الإستكبارْ,

و بعد الحربِ إذا الحربُ أتت ثمارها المرجوّةِ سوف نُلقي السِلاحَ و نحمِلُ الشّموعْ,

نستبدلُ الحربَ الضّروس و أوزارها بالحُبِّ و العِشقِ و نتوحّدُ في عِشقِ و حُبِّ الله,

فالحُبّ في النّاموسِ أقوى و العِشقُ في الله أجدى من الحربِ و قرقعةِ السّلاحْ,

تعالي يا أمّ الحياةِ يا من أكرمكِ الله في القرآنِ بقداسةِ الحُبِّ نُحاربُ بالعِشقِ نتسلّحْ,

و نُقاتلُ و نُجاهدُ و نبذلُ كُلّ غالٍ و ثمينٍ في سبيلِ الله و الحقّ و الوجودِ و الحياةْ,

يا خضر موسى أيّها العبدُ الصّالحِ الذي خفيَ علينا إسمكَ المباركُ في آي القرآنْ

تعالَ تعالَ تعالَ قدْ أضِئنا لك في كُلِّ مقامَ و في كُلِّ مزارٍ في العِشقِ و الحُبِّ شُموعْ,

يا خضر أيلا النّبي و يا خضر إلياسَ النّبي و يا كوكب الصّبحِ الوضّاءِ و يا خضر المعجزاتْ,

نحن ننتظركَ على شغفٍ عند مجمع البحرينِ حيث الصّخرةَ و المسربَ كي نلقاكْ,

عُدْ إلينا يا خضر موسى كم نتوق إليكَ و لوعيكَ و عرفانكَ في المكانِ و الزّمانْ,

عُدْ إلينا بوصاياكَ و أدعيتكَ و صلاتك و ضمّخْ حياتنا بطهارة العِشقِ و قداسة الحُبّْ,

و ليتجلّى الحُبُّ مُعجزةً و العِشقُ كرامةً من لدن الله في أرحبةِ الأرضِ و السّماءْ,

و لتكُنْ مشيئة الله فينا كما شاءَ بما شاء و ممّا شاءَ و كيفما المشيئةَ عدلاً شاءْ,

فأينَ يستوي الفُلكَ عند قِمّةِ العنفوانِ و جبل القداسةِ ليس في الأمرِ سؤالْ,

فالأرضُ ستخضرُّ و تلبس سندسها و تتدثّرُ نماءً أينَ الخِضرُ مشى و أقام الصّلاةْ,

و قيثارة الحياة ستصدحُ في أذنِ العيشِ من أجلِ الحياةِ و تُزهِرُ الأرضُ بعد الجفافْ,

و يلتقي موسى النّبي إبن عمران و يُدركُ الخضر برحلةِ العلمِ عند مجمع البحرينْ,

و تبدأ الحياة من جديدٍ و تتكرّر ظواهرُ الأشياءِ و البواطنُ حركة فِعلِ المعجزاتِ الثّلاثْ,

خرْقُ السّفينةِ لِتبقى لأصحابها الفقراءَ و قتلُ الغلامِ الكافرِ و تقويمُ ما مال من الجِدارْ,

و لِيتفكّر من له عقلٌ و قلبٌ فالحرْبٌ على الظّلمِ و الكفرِ و حِفظٌ للمواثيق و العهودْ,

و تحتضنُ الأرضَ بعد طُهرها الحياةْ لِتستمرّ في الحملِ و الإنجابِ في هذا الزّمانْ,

و تُبنى فوق الأرضِ المساجدُ و المُصلّياتُ و المزاراتُ و البيوتَ لله و في رِضى الله,

و يتناسلُ الأنبياء و أولاد الأنبياء و أحفادُ الأنبياءِ و الأولياء و الخلفاء بالملايينْ...