فَقْدَانُ أَبِيْ
بِقَلَمْ: حُسَيْنْ أَحْمَدْ سَلِيْمْ
فَقَدْتُ أَبِيْ الَّذِيْ إِنْتَقَلَ
بِالوَفَاةِ إِلَىْ جِوَارِ الله تَعَالَىْ. فَتَزَاحَمَتِ الأَفْكَارُ فِيْ
رَأْسِيْ, وَوَجُلَ مِنْهَا وِجْدَانِيْ. وَتَوَجَّدَ مِنْهَا قَلْبِيْ عِنْدَمَا
زَارَنِيْ الحُزْنُ وَدَعَانِيْ قَدَرًا إِلَىْ وُلُوْجِ دُنْيَاهُ. فَضَاقَ
صَدْرِيْ بِالهُمُوْمِ وَغَرِقْتُ فِيْ
مَتَاهَاتِ أَحْزَانِيْ وَإِرْتَحَلْتُ مُكْرَهًا فِيْ غَيَاهِبِ الضَّيَاعِ.
سِيَّمَا عِنْدَمَا شَعَرْتُ أَنَّنِيْ أَحْتَاجُ إِلَىْ أَبِيْ. فَنَادَيْتُ: يَا
أَبِيْ؟ وَلَكِنْ لَيْسَ فِيْ البُعْدِ مِنْ مُجِيْبٍ...
وَغَدَوْتُ فِيْ كُلِّ صَبَاحٍ
وَمَسَاءٍ أُنَادِيْ أَبِيْ, مُشْتَاقًا لِصَدْرِهِ الحَنُوْنِ السَّامِيْ,
مُتَشَاغِفٌ لِنَبْعِ الحُبِّ النَّبِيْلِ الصَّافِيْ, وَلاَ أَجِدُ صّدْرًا
إِلَيْهِ يَضُمَّنِيْ, وَلاَ حُضْنًا دَافِئًا إِلَيْهِ يَحْتَوِيْنِيْ...
أَبِيْ هُوَ مَنْ عَلَّمَنِيْ
مَعْنَىْ الحَيَاةِ وَلِذَّةَ العَيْشِ فِيْهَا, وَأَبِيْ هُوَ مَنْ مَسَكَ يَدِيْ
وَمَشَىْ بِيْ عَلَىْ دُرُوْبِهَا وَإِجْتَازَ بِيْ مَسَالِكِهَا. أَبِيْ هُوَ
مَنْ كَانَ يَقِفُ مَعِيْ فِيْ ضِيْقِيْ, وَهُوَ مَنْ كُنْتُ أَجِدُهُ قُرْبِيْ
فِيْ فَرَحِيْ, وَهُوَ مَنْ كَانَ يُوَافِقُنِيْ فِيْ رَأْيِِيْ, وَيُصْلِحَ لِيْ
خَطَأِيْ, فَكَانَ مُدَرِّسِيْ وَمُعَلِّمِيْ وَحَبِيْبِيْ وَمَثَلِيْ الأَعْلَىْ.
يَنْصَحَنِيْ إِذَا أَخْطَأْتُ وَيَأْخُذُ بِيَدِيْ إِذَا تَعَثَّرْتُ,
وَيَسْقِيْنِيْ إِذَا ظَمِئْتُ, وَيَمْسَحُ عَلَىْ رَأْسِيْ إِذَا أَحْسَنْتُ...
أُنَادِيْ أَبِيْ, فَلاَ أَجِدَ
كَلِمَةً تَمْحُوَ مَا بِوِجْدَانِيْ سِوَاهَا, وَلاَ أَجِدَ دُنْيَا
تَحْتَوِيْنِيْ سِوَاهَا. فَيَا أَبِيْ بَعْدَ فُقْدِكَ, جِئْتُ كَاتِبًا لَكَ
آمِلاً أَنْ يَصِلَكَ إِحْسَاسِيْ مِنْ خِلاَلِ زَفَرَاتِ أَنْفَاسِيْ. أَرِدْتُ
أَنْ تَصِلَ كَلِمَاتِيْ إِلَىْ قَلْبِكَ وَرُوْحِكَ, فَأَنَا لَمْ وَلَنْ وَلاَ
أَتَأَمَّلُ حَيَاةً مِنْ بَعْدِكَ. أَرِدْتُ أَنْ تَصِلَ إِلَيْكَ كَلِمَتِيْ
الَّتِيْ خَرَجَتْ مِنْ أَعْمَاقِيْ, مِلْءَ رُوْحِيْ وَوِجْدَانِيْ وَنُطْقِيْ,
هِيَ كَمْ أُحِبُّكَ يَا أَبِيْ؟.
فَقَدْتُكَ يَا أَبِيْ وِبِفُقْدَانِكَ
فَقَدْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ مِنْ حَوْلِيْ. فَفُقْدَانُ الأَبِ صَعْبٌ وَلَيْسَ
سَهْلاً وَلاَ بَسِيْطًا فِيْ كُلِّ المَقَايِيْسِ.
أَنْ أَفْقِدَكَ يَا أَبِيْ,
مَعْنَاهُ أَنْ أَخْسَرَ الجِدَارَ الصَّلْبِ الَّذِيْ كُنْتُ أَسْتَنِدُ
إِلَيْهِ, وَأُصْبِحُ فِيْ مَهَبِّ الرِّيَاحِ الَّتِيْ لاَ تَرْحَمُ مَنْ هُمْ
أَمْثَالِيْ.
أَنْ أَفْقِدَكَ يَا أَبِيْ,
مَعْنَاهُ أَنْ أَفْقِدَ السَّمَاءَ الَّتِيْ كَانَتْ تَجُوْدُ بِنَبْعِ الحُبِّ
وَالحَنَأنِ.
أَنْ أَفْقِدَكَ يَا أَبِيْ,
مَعْنَاهُ أَنْ أَفْقِدَ المِظَلَّةَ الَّتِيْ كَانَتْ تَحْمِيْنِيْ مِنَ
الشُّرُوْرِ, وَأَغْدُوَ وَحِيْدًا فِيْ مُوَاجَهَةِ كُلِّ الأَشْيَاءِ.
أَنْ أَفْقِدَكَ يَا أَبِيْ, لَيْسَ
مَعْنَاهُ اليُتْمَ فَقَطْ, بَلْ يَعْرِفُ مَنْ أَتَعَامَلَ مَعَهُ أَنَّنِيْ
وَحِيْدًا أَمَامَهُ, وَرُبَّمَا أَمَامَ طُمُوْحِ أَهْدَافِهِ وَمَطَامِعِهِ.
أَنْ أَفْقِدَكَ يَا أَبِيْ,
مَعْنَاهُ أَنْ أَُحِسَّ بِمَعْنَىْ الوَحْدَةِ, وَفُقْدَانِ اليَدِ الَّتِيْ
كَانَتْ تَمْتَدُّ لِيْ لِتُسَاعِدَنِيْ, حَتَّىْ وَلَوْ مُدَّتْ لِيْ أَلْفَ يَدٍ
وَيَدٍ. فِإِنَّهَا لَمْ وَلَنْ وَلاَ تُغْنِيْ لِيْ عَنْ يَدِكَ المَلِيئَةَ
بِدِفْءِ وَحَنَانِ الأُبُوَّةِ.
أَنْ أَفْقِدَكَ يَا أَبِيْ,
مَعْنَاهُ أَنْ أَعِيْشَ الأَلَمَ الدَّائِمَ, وَأَحْيَا الحُزْنَ العَمِيْقَ,
وَالشُّعُوْرَ بِالضَّيَاعِ وَالوِحْدَةِ وَالفَرَاغَ وَالوَحْشَةِ.
إِحْسَاسٌ لَمْ وَلَنْ وَلاَ يَعْرِفُهُ إِلاَّ مَنْ جَرَّبَهُ وَعَاشَهُ, وَلَمْ وَلَنْ وَلاَ يَعْرِفَهُ إِلاَّ مَنْ ذَاقَ طَعْمَ مَرَارَةِ اليُتْمِ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق